عباس الموسى، منسق مشروع الإصلاح القانوني في اليوم التالي.
“نظام الأسد ارتكب جرائم مروّعة مرة تلو الأخرى. الأدلة دامغة. يجب أن تكون هناك عواقب. عدد كبير من السوريين تعرّض للتعذيب والقتل، والاختفاء القسّري، والهجمات بالغازات السامة أو فقدوا كل شيء وهم يفرّون بأرواحهم”.
هذا ما جاء مؤخراً على لسان وزير الخارجية الهولندي، ستيف بلوك، في بيان صحفي صادر عنه.
بتاريخ الثامن عشر من سبتمبر/أيلول 2020، صدر عن وزارة الشؤون الخارجية في هولندا، بيانًا يفيد بعزم حكومة البلاد، على محاسبة حكومة النظام السوري، لانتهاكها اتفاقية منظمّة الأمم المتحدة حول مناهضة التعذيب المصادق عليها من قبل البلدين.
هذا البيان، جاء عقب رسالة وجّهتها الحكومة الهولندية إلى البرلمان، عبّرت فيها عن عزمها محاسبة النظام أمام محكمة العدل الدولية، لارتكابه جرائم تعذيب، واستخدامه غازات سامة في هجمات شنّها ضد المدنيين السوريين، مؤكدةً أنها بالفعل أبلغت بعثة النظام لدى الأمم المتحدة بهذا الإجراء، مع إبداء استعدادها للتفاوض معه، لسحب ضمانات منه بوقف التعذيب، وإلا فإنها سوف تمضي في مسعاها بمقاضاته أمام محكمة العدل الدولية.
وأثار القرار الهولندي جدلًا واسعًا بين المعنيين، فبعض الدول ومنها ألمانيا رحبت بالخطوة الهولندية، بينما جاء رد النظام السوري بتوجيه اتهامات لهولندا بالتحكّم بمحكمة العدل الدولية لوجودها على أراضيها، معتبرًا أن هذه الخطوة هي “قفز فوق دور هيئة الأمم المتحدة”، وأن هولندا “لا يحق لها الحديث عن مناصرة حقوق الإنسان، وهي متورّطة بدعم منظمات إرهابية تقاتل في سوريا”، بحسب تعبيره.
في المقابل، رحّب بعض الناشطين الحقوقيين السوريين بالخطوة الهولندية، معتبرين أنها بداية الطريق لتحقيق العدالة عبر محاكمة نظام الأسد والانتصار للضحايا، بينما رأى البعض الآخر أنها مجرّد خطوة رمزية أتت متأخرة، لا يمكن التعويل عليها، باعتبار أن محاكمة النظام يجب أن تكون أمام المحكمة الجنائية الدولية، وليس محكمة العدل، فيما تحفّظ البعض على مخاطبة هولندا للنظام لمنحها بذلك الشرعية له.
ردود الأفعال هذه دعتنا في منظمة “اليوم التالي” للبحث في تفاصيل هذه الخطوة، ومحاولة تبسيط المعلومات للرد على التساؤلات والتخوفات التي أثيرت بين السوريين حول هذه المسألة، وذلك من خلال تناولها على شكل سؤال وجواب.
ما هي محكمة العدل الدولية؟ من أين يتأتى اختصاصها بالحالة السورية؟
محكمة العدل الدولية هي الجهاز القضائي الرئيسي للأمم المتحدّة، تُعنى فقط بالشكاوى بين الدول الأعضاء في المنظمة الأممية. تتولى المحكمة الفصل، طبقًا لأحكام القانون الدولي، في النزاعات القانونية التي تنشأ بين الدول، إضافة إلى تقديم الآراء الاستشارية بشأن المسائل القانونية التي قد تحيلها إليها أجهزة الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصّصة.
في الحالة السورية، يرتكز اختصاص المحكمة على انتهاك الحكومة السورية لالتزاماتها باتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب الصادرة عام 1984، والمصادق عليها عام 2004، الأمر الذي يشكّل أساسًا لما يُعرف بالخلاف القانوني بين دولتين، ومن هنا تحرّكت الحكومة الهولندية ضد نظيرتها السورية، وهذا ما يتوجّب على باقي الدول المصادقة على الاتفاقية القيام به.
لماذا الآن؟ لماذا محكمة العدل الدولية وليست المحكمة الجنائية الدولية؟
منذ انطلاقة الثورة السورية عام 2011، كانت هناك محاولات متكرّرة من قبل دول الأعضاء في مجلس الأمن، لإحالة ملف جرائم النظام السوري إلى المحكمة الجنائية الدولية، لكّنها اصطدمت في كلّ مرة بالفيتو المزدوج الروسي – الصيني، إذ إن أوّل سُبل مقاضاة حكومة النظام على جرائمها أمام المحكمة الجنائية، هو إحالة الملف عن طريق مجلس الأمن.
أما السبيل الثاني، وهو مغلق أيضًا في الحالة السورية، كان عدم تمكّن المحكمة الجنائية الدولية فتح الملف من تلقاء نفسها، لأن الدولة المُراد مقاضاتها، أي سوريا، ليست موقّعة على نظام المحكمة، وهو “نظام روما” الأساسي، وبالتالي فإن سوريا خارج اختصاص المحكمة الإقليمي. أما السبيل الثالث الذي يبدو مستحيلًا أيضًا في حالتنا، فهو طلب حكومة الدولة المعنية فتح ملفها أمام المحكمة حتى لو لم تكن موقّعة على “نظام روما”.
أمام هذا الطريق المغلق، واستمرار النظام السوري بارتكابه انتهاكات جسيمة للقانون الدولي الإنساني، والقانون الدولي لحقوق الإنسان، لجأت الحكومة الهولندية إلى طرق باب محكمة العدل الدولية.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن اللجوء إلى محكمة العدل الدولية لا يُعد بديلًا عن المحكمة الجنائية، ولن يعيق اللجوء إلى الأخيرة مستقبلًا، بل على العكس تمامًا سوف توفّر إجراءاتها وقراراتها قاعدة قانونية قوية وداعمة لجهود المحاسبة الجنائية وتدعم موقف الضحايا والمناصرين لهم.
لماذا خاطبت هولندا النظام السوري؟ لماذا دعته للتفاوض؟ ألن تؤدي هذه المخاطبة إلى شرعنة النظام؟
استندت الحكومة الهولندية في تحرّكها ضد النظام على أحكام اتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب، والتي تمنح الدول الأطراف فيها، حق مقاضاة الدولة المنتهكة للاتفاقية، والمخلّة بالتزاماتها، لا سيما وأن الدولة المدعية لا يمكن أن تتحرّك مباشرة باتجاه محكمة العدل الدولية.
وبموجب المادة 30 من اتفاقية مناهضة التعذيب، تلتزم الدولة المدّعية بمخاطبة الدولة المنتهكة، والتفاوض معها وتسوية الوضع بينهما، عن طريق التحكيم ضمن مدة ستة أشهر من تاريخ التبليغ. وفي حال عدم استجابة الدولة المنتهكة أو عدم وصول التحكيم إلى أي نتيجة خلال هذه المدة، يحق للدولة المدّعية اللجوء إلى محكمة العدل الدولية.
هذه الإجراءات هي إجراءات قانونية بحتة، وليس لها أي بُعد سياسي يتعلّق بشرعنة الدولة المنتهكة من عدمها، كما أن محكمة العدل الدولية ليست مختصّة بالشؤون السياسية، في معرض إجراءاتها وقراراتها ومخاطبتها للدولة المنتهكة، إذ يقتصر عملها على النظر بالشكاوى بين الدول الأعضاء في هيئة الأمم المتحدة، من ضمنها سوريا التي تُعتبر أيضًا طرفًا في العديد من الاتفاقيات الدولية، مثل اتفاقية مناهضة التعذيب.
ما هي مآلات هذه الشكوى فيما لو أقيمت أمام محكمة العدل الدولية؟ هل تستطيع المحكمة اتخاذ إجراءات ملزمة؟
في حال رُفعت شكوى مماثلة أمام محكمة العدل الدولية، وهذا هو المرجح في المستقبل، نتيجة تعنّت النظام السوري ورفضه الاستجابة لمطالب الحكومة الهولندية، ستشكّل قرارات المحكمة الجنائية ورؤيتها، مصدرًا مهمًا في تعزيز المحاججة القانونية، وتشكيل ضغوطات أوسع على الأطراف السياسية المؤثّرة في الملف السوري.
كما أن هذه المحاكمة هي الإطار القانوني الوحيد الذي يُشكّل آلية محاسبة لكيان الدولة المنتهكة، خاصة أنّها قد تفرض على الأخيرة إجراءات وقرارات ملزِمة قانونًا بعد النظر في الشكوى المقدّمة أمامها.
وأهم ما يمكن تحقيقه من خلال المحاكمة الحالية هو فرض تدابير مؤقتة ضد النظام ومؤسساته، أثناء سير الشكوى، مثل إلزامه بتنفيذ إجراءات من شأنها إيقاف الممارسات التي تشكل انتهاكًا للاتفاقية، والحفاظ على الأدلة الحسيّة والسياقية التي تخدم مسار محاسبته، إذ تستطيع المحكمة الاستناد على التقارير الحقوقية الصادرة عن المنظمات، إضافة إلى مصادر المعلومات والأدلة، كما يمكنها الاعتماد على شهادات ضحايا النظام.
قد يكون المسار نحو تحقيق العدالة طويلًا وشاقًا تعترضه عوائق كثيرة، هذا الواقع يحتّم علينا جميعًا خلق الفرص للوصول إلى هذا الهدف عبر الانتصار للضحايا ومحاسبة المنتهكين. وقد تكون خطوة الحكومة الهولندية هذه فرصة لنا نحن السوريين لمحاسبة النظام على ما ارتكبه بحقّنا من جرائم.
عباس الموسى،
منسق مشروع الإصلاح القانوني في منظمة اليوم التالي.