الولاية العالمية للقضاء الوطني: محكمة كوبلنز

الولاية العالمية للقضاء الوطني: محكمة كوبلنز

عباس الموسى، منسق مشروع الإصلاح القانوني في اليوم التالي.

 

 

رافق تطور العلاقات الدولية هاجسًا كان لا بدّ من التصدي له، ألا وهو الجريمة الدولية التي كانت تتطوّر وتأخذ أشكالًا متعدّدة وخطيرة، مهدّدةً الأمن والسلم الدوليين، ما دفع المجتمع الدولي إلى التعاون لإيجاد سبل وآليات عقاب وردع لمرتكبي الجرائم الدولية.

 

ولأن القضاء الوطني هو أوّل رادع للجريمة، وبالتالي يحمي حقوق الإنسان، ولأنّه لا يمكن له وفق شكله التقليدي أو اختصاصه أن يؤدّي المهمّة، إضافة لعزوف بعض الدول المعنية عن المحاسبة لأسباب سياسية، عملت العديد من الدول على منح قضائها الوطني الولاية العالمية للنظر في الجرائم الدولية.

 

واستندت هذه الدول في ذلك على ما نصّت عليه الاتفاقيات والمعاهدات الدولية، والتي تناولت بدورها العديد من الجرائم الدولية على اختلاف أنواعها، فمثلًا جاء في المادة الثانية من اتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب: “تتخذ كلِّ دولة طرف إجراءات تشريعية أو إدارية أو قضائية فعّالة أو أية اجراءات أخرى لمنع أعمال التعذيب في أي إقليم يخضع لاختصاصها القضائي”.

 

هذا التطوّر في القضاء الوطني لبعض الدول، ساعد الحقوقيين والمنظّمات السوريّة الحقوقيّة في العمل على محاسبة بعض مرتكبي جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، خاصةً وأنّ الظروف السياسية للملف السوري ساهمت حتى اليوم في قطع الطريق إلى المحكمة الجنائية الدولية.

 

محكمة كوبلنز

محكمة كوبلنز الألمانية التي تحاكم مواطنين سوريين منذ أبريل/نيسان الماضي، مستندةً في اختصاصها على الولاية العالمية للقضاء الوطني، هو ما دفعنا في منظمة اليوم التالي للحديث عن الولاية وفتح هذا الملف.

 

وكانت المحكمة الإقليمية العليا في منطقة كوبلنز الألمانية، أصدرت قبل أسابيع حكمًا بإدانة إياد الغريب، صف الضابط السابق في المخابرات العامة التابعة للنظام السوري، وسجنه لمدة أربع سنوات ونصف، بتهمة التواطئ في ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، ضمن قضية الضابطيْن السورييْن المتهميْن بالمسؤولية عن جرائم ضد الإنسانية، والتي نُفذّت في مراكز اعتقال تابعة للنظام في العاصمة دمشق.

 

تفاصيل هذه المحاكمة وتطوّراتها لم تعد خفيّة على السوريين، حيث أثارت موجة من ردود الأفعال المتضاربة بين مؤيّد ومعارض لها، وكل طرفٍ بنى مواقفه على أسس يراها صحيحة.

 

فمن أيد المحاكمة رأى فيها بداية الطريق لمحاسبة النظام السوري، كون هذه المحاكمة هي الأولى من نوعها في الملف السوري، وأنها أولى ثمرات الجهد الكبير الذي تبذله الجهات الحقوقية في هذا المسار، وفي بعض الأحيان وصف البعض هذه المحاكمة بـ”التاريخية” ورأى فيها محاسبة للنظام السوري.

 

أما من عارضها في المقابل، فرأى فيها قصورًا، كون المحكمة الناظرة في القضية محلية ألمانية و”لا جدوى منها”، بحسب تعبير البعض. كما رأى فيها البعض الآخر تبديدًا للعدالة، وحرف مسارها عن محاسبة النظام السوري، وأن الغاية منها تقديم أكباش فداء، ووصل بعضهم إلى حد الاستهزاء بالمحاكمة ضاربًا بعرض الحائط مشاعر الضحايا وذويهم.

 

هذا المقال سيتناول محاكمات كوبلنز من الجانب القانوني فقط، لتوضيح بعض النقاط الغامضة، علّه يساعد في تكوين الصورة الكاملة عن هذه المحاكمات، من خلال الإجابة على بعض التساؤلات القانونية.

 

هل يحق لمحكمة كوبلنز الألمانية محاكمة سوريين أو مواطنين من جنسيات أخرى؟ وهل كونها محكمة محليّة في ألمانيا يجعلها قاصرة عن هكذا محاكمات؟

يتمتّع القضاء الألماني بالاختصاص العالميّ للنظر في الجرائم الدولية على أنواعها منذ العام 2002. وهذا الاختصاص مُنح للقضاء في ألمانيا من قبل المشرّع الألماني، بموجب قانون العقوبات في البلاد. كما أن ألمانيا عضو في الكثير من المعاهدات والاتفاقيات الدولية التي تُلزم الدول المصادقة عليها بمقاضاة مرتكبي جرائم ضد الانسانية.

 

وكون أن محكمة كوبلنز، محكمة ألمانية محليّة غير ملمّة بالشأن السوري، لا يعني أنه لديها قصور بالنّظر في هكذا محاكمات، حيث أنّها ومن خلال تطبيق القواعد الإجرائية القضائية، والقانونية الألمانية، إضافة إلى الاستماع لأطراف الدعوى، ودراسة تقارير وتوثيقات منظمّات ومراكز حقوقية، تخصّ الملف السوري عمومّا، وموضوع الدعوى المقدمة لديها خصوصًا، تستطيع تشكيل الرؤية الكافية لفهم سياق ما جرى، وبالتالي تكوين قدرتها على إصدار حكمها في الدعوى.

 

ما هي الولاية العالمية للقضاء الوطني؟

تُعرَّف الولاية العالمية للقضاء الوطني على أنّها: منح دولة ما قضائها الوطني، ولاية محاكمة أشخاص ارتكبوا أفعالًا مجرّمة، في القانون الدولي الإنساني أو في القانون الدولي لحقوق الإنسان، حتّى لو كان مرتكب الجريمة وضحاياها ليسوا من رعايا هذه الدولة، ووقعت هذه الجرائم خارج إقليم الدولة، مستندةً على مبدأيّ عدم الإفلات من العقاب، ومكافحة الجريمة الدولية.

 

في المقابل، تنعقد الولاية الوطنية للقضاء الوطني لدولة ما، في حال كان أحد أطراف الجريمة يحمل جنسية تلك الدولة أو أن الجريمة كلّها أو جزء منها يقع ضمن إقليمها.

 

وتعتبر الجريمة التي تنعقد عليها الولاية الوطنية للقضاء الوطني، على أنها ارتُكبت ضد المجتمع الذي تمثّله الدولة. أما الجريمة التي تنعقد بموجبها الولاية العالمية للقضاء الوطني، فتُعتبر جريمة ضد المجتمع الدوليّ ككل، أي أنها جريمة دوليّة يحقّ لأي دولة أن تعاقب عليها.

 

  تعتبر الجريمة التي تدخل في نطاق الولاية القضائية الوطنية مرتكبة ضد المجتمع الذي تمثله الدولة. إن الجريمة التي تقع تحت الولاية القضائية العالمية للقضاء الوطني هي جريمة ضد المجتمع الدولي ككل، وأي جريمة دولية يمكن لأي دولة أن تعاقب عليها.

 

ما هي المبادئ التي تعتمد عليها الدولة في إعطاء قضائها الولاية العالمية؟

طوّرت العديد من الدول قوانينها وأجهزتها القضائية لاعتراض مرتكبي الجرائم الدولية ومنع إفلاتهم من العقاب، بالاعتماد على عدد من المبادئ أهمها:

 

  • مبدأ عدم الإفلات من العقاب، حيث يُشكّل هذا المبدأ أساسًا راسخًا في سبيل تحقيق العدالة ومحاسبة كل شخص قام بارتكاب جريمة دولية.
  • تشكيل رادع حقيقي يحول دون ارتكاب مثل تلك الجرائم في المستقبل أو تكرارها.
  • المساهمة في تحقيق السلم والأمن الدوليين، فضلًا عن استقرار العلاقات الدولية، وحماية مصالح الدول من خلال مكافحة الجريمة الدولية.
  • حماية مواطني الدول التي تتبنّى الولاية العالمية للقضاء الوطني، عبر محاسبة مرتكبي الجرائم الدولية، حيث يُشكّل استقبال دولة ما لشخصٍ قام بارتكابِ جرائم في دولة أخرى، خطرًا على مجتمعها، في حال عدم إدانته بحجة عدم اختصاص قضائها بالمحاسبة على تلك الجرائم.

 

ما هو الأساس القانوني للولاية العالمية؟

هناك العديد من الأسس القانونية التي تستند إليها الولاية العالمية للقضاء الوطني، والتي نصّت عليها الاتفاقيات والمعاهدات الدولية، مثلما جاء في المادة السابعة من اتفاقية مناهضة التعذيب، 1984: “تقوم الدولة الطرف التي يوجد في الإقليم الخاضع لولايتها القضائية، شخص يٌدَّعى ارتكابه لأي من الجرائم المنصوص عليها في المادة 4، في الحالات التي تتوخاها المادة 5، بعرض القضية على سلطاتها المختصّة بقصد تقديم الشخص للمحاكمة، إذا لم تقم بتسليمه”.

 

هل تُعتبر الولاية العالمية للقضاء الوطني بديلًا عن اختصاص المحكمة الجنائية الدولية؟

على العكس تمامًا، فهي لها دور مكمّل، إذ تسدّ الولاية العالمية الثغرة القانونية في حال كانت الدولة المعنية بالقضية، لا تريد أو عاجزة عن محاكمة الجاني أو أن الدولة المعنية غير موقّعة على نظام “روما الأساسي” للمحكمة الجنائية. وهنا تبرز أهميّة الولاية العالمية للقضاء الوطني في محاكمة مرتكبي الجريمة الدولية، وعدم إفلاتهم من العقاب.

 

هل هذا النوع من المُحاكمات يُعرقل الجهود الرامية إلى محاسبة النظام السوري وتبديد العدالة؟

الجواب هو لا، على الإطلاق. فمن خلال هذه المحاكمات سيتمكّن السوريون من الحفاظ على الأدلة، وتعزيز الحجّة القانونية التي ستكون داعمًا قويًّا في تأصيل مسؤولية النظام السوري عن تلك الجرائم، وذلك من خلال إدانة أشخاص كانوا يعملون تحت قيادته، ووفق سياسته الممنهجة في ارتكاب جرائم ضد الإنسانية.

 

هل هناك تجارب أخرى لاستخدام الولاية العالمية للقضاء الوطني؟

استخدمت عدة محاكمات الولاية القضائية العالمية لتحقيق العدالة. فتاريخيًّا، تم تفعيل مبدأ الولاية العالمية للقضاء الوطني، للمرّة الأولى، في محاكمات مكافحة القرصنة، حيث كان القراصنة يُهاجمون سفن بعض الدول في المياه الدوليّة، غير الخاضعة لقانون دولة بعينها، لذا تم اعتماد المحاسبة على جريمة القرصنة من قبل أي دولة حتى لو لم تكن ذات صلة بالجريمة شخصيًا أو أقليميًا، على اعتبار أن جريمة القرصنة هي جريمة دولية.

 

وفي الآونة الأخيرة، تم تطبيق الولاية العالمية، للمرّة الأولى، في محكمة نورمبرغ، بعد الحرب العالمية الثانية، حيث تذرّعت المحكمة بهذه الولاية، في تبرير النظر بجرائم النازيين، على اعتبار أن الجرائم التي ارتكبوها هي جرائم ضد المجتمع الدوليّ ككلّ، لذا يحقّ لأيّ دولة النظر فيها.

 

الولاية العالمية للقضاء الوطني، هي إحدى آليات المساءلة والمحاسبة التي يتوجب علينا نحن السوريون، أفرادًا ومنظّمات، استغلالها بالشّكل الأمثل في خدمة مسار تحقيق العدالة والانتصار للضحايا وذويّهم، خاصةً في ظلّ الظروف السياسية التي لا تشير لوجود مسار واضح للحل في سوريا.

 

عباس الموسى،

منسق مشروع الإصلاح القانوني في اليوم التالي.