لا يمكن أن تكتمل عملية التحول الديمقراطي في سوريا دون أن يتم ضمان إجراء انتخابات نزيهة تعبر عن إرادة الشعب، وتعد مساحة ديمقراطية حقيقة لاختيار ممثلي وممثلات الشعب بكل أطيافه، ما يعني أن الانتخابات في مرحلة مابعد الحل السياسي يجب أن تكون مبنية على أسس وقواعد متينة، ودراسات تقنية وقانونية وأمنية واجتماعية تحقق أفضل تحول من مرحلة النظام الشمولي الذي يتحكم بالسلطة ويوظف الانتخابات لخدمة مصالحه وسطوته، إلى نظام يفتح الباب أمام مشاركة حقيقية وحرة تعبر عن تطلعات السوريين/ات وخياراتهم، وتمثل البوابة الحقيقية للديمقراطية، في ظل بيئة آمنة ومحايدة، يشارك فيها جميع السوريين والسوريات وفق قرار مجلس الأمن 2254 لعام 2015.
يمكنكم الاطلاع على تقرير “الإصلاح الانتخابي وعملية التحول الديمقراطي في سوريا” عبر الرابط موجز التقرير متوفر على الرابط |
انطلاقاً من هذا الإيمان عقدت اليوم التالي مؤتمراً في مدينة اسطنبول، لمناقشة التقرير الذي أصدرته العام الماضي حول “الإصلاح الانتخابي وعملية التحول الديمقراطي في سوريا”، والوقوف على توصياته ودعمها، بحضور نحو 85 شخصاً بشكل فيزيائي وعن بعد عبر الإنترنت من خبراء وباحثين متخصيين وسياسيين وصحفيين، بما يسهم بتعزيز وتأكيد أهمية العمل على هذا المسار تمهيداً لمرحلة انتقالية منتظرة في سوريا، وفق قرار مجلس الأمن 2254 لعام 2015 الـذي رسم خارطة طريق للانتقال الديمقراطي في سـوريا ودعا “لانتخابـات حـرة ونزيهة تجرى عملاً بالدستور الجديد، في غضون 18 شهراً تحـت إشراف الأمم المتحدة، بما يستجيب لمتطلبات الحوكمة وأعلى المعايير الدولية من حيث الشفافية والمساءلة، وتشمل جميع السوريين الذين تحق لهم المشاركة، بمن فيهم أولئك الذين يعيشون في المهجر”.
اللقاء دار حول تفاصيل وجوانب عدة مثلت محاور التقرير الذي أصدرته اليوم التالي، وأحاطت بالجوانب الدستورية والقانونية والتقنية والتمثيلية لعملية الانتخابات، ودور المؤسسات المعنية بالعملية الانتخابية، والإشراف الدولي، والمشاركة السياسية، وسبل إصلاحها بما يتماشى مع طبيعة الانتقال في سوريا، وفق الظروف الموضوعية للبلاد.
تقنياً وقانونياً.. مدخلان لفهم وإصلاح العملية الانتخابية في سوريا
استعرضت الجلسة الأولى بمشاركة أستاذ القانون الدستوري والنظم السياسية د. سام دلة، والمستشار القانوني، الأستاذ خالد عدوان الحلو، غياب البيئة القانونية والسياسية المواتية لإجراء انتخابات حرة ونزيهة، بتسليط الضوء على مدى تكريس التشريعات للاستبداد منذ انقاب البعث عام 1963، ودرجة انتهاكها حقوق الإنسان في سوريا.
وتناولت الجلسة الصكوك والمعاييرالدولية المرتبطة بالانتخابات، وموقف سوريا منها، ومدى تعارض التشريعات السورية مع هذه المعايير والصكوك الدولية.
انتقلت الجلسة الثانية إلى الجانب التقني، إذ استعرض المتحدثان د. علي مراد، الناشط السياسي والحقوقي، ود. نائل جرجس، المتخصص في حقوق الإنسان، أنواع النظم الانتخابية المختلفة بما في ذلك محاسنها ومساوئها، على اعتبار أن اختيار النظام الانتخابي وتقسيم الدوائر الانتخابية عاملان مهمان في ضمان جودة العملية الانتخابية، وأيضاً في تحديد شكل النظام السياسي الذي ستسفر عنه.
وكما في الدول الخارجة من صراعات، فإن أي انتخابات تلي مرحلة الانتقال السياسي يجب أن تتبع آليات تضمن دقة التمثيل وصحته وشموله، مما يُسهم أيضاً في الحدّ من الشـروخات المجتمعية وفي المصالحة الوطنية.
المتحدثون والحاضرون ناقشوا أفضل الأنظمـة لانتخابيــة بالنسبة للحالة السورية التي غـاب عنهـا تقسـيم عـادل للدوائرالانتخابية، فــي ظل نزاع أدى إلى تغيير كبير في التركيبة الديموغرافية والطائفية والعرقية للسكان.
الرقابة الأممية وضمانات النزاهة والمشاركة
في الجلسة الثالثة من اللقاء بمشاركة الأستاذ مهند شرباتي، والقاضي أنور مجني، المستشار القانوني ومدير البرامج في اليوم التالي، دار الحديث حول فرص وجود هيئة إدارة الانتخابات الوطنية في سوريا. وأهمية دور الأمم المتحدة في عملية تشكيل هيئة إدارة انتخابية خلال المرحلة الانتقالية، عقب عقود من انعدام شبه كامل للممارسة الديمقراطية الحقيقية، وفي ظل وجود قسم كبير من السوريين خارج البلاد.
وإلى جانب إدارة الانتخابات المباشرة، ناقشت الجلسة أيضاً أهمية مؤسسات القضاء، والإعلام، والأمن، كضمانات مهمة يجب أخذها بعين الاعتبار ضمن عملية الإصلاح الانتخابي في سوريا، لمحورية أدوارها في الدعم والرقابة وتذليل الطريق أمام نجاح الانتخابات.
الجلسة الاخيرة انتقلت إلى استعراض سُبل تعزيز المشاركة في الانتخابات السـورية، وكان المتحدثون خلالها الباحث مازن غريبة، المدير التنفيذي للمجلس السوري البريطاني، والمحامية رولا بغدادي، المديرة التنفيذية لمنظمة دولتي، والباحث رعد أطلي.
ركزت الجلسة على أهمية المشاركة السياسية للمرأة في الانتخابات، وتناولت إشكالية مشاركة اللاجئيـن والنازحين في الانتخابات، إلى جانب فـرص وتحديات مشاركة الأحزاب السياسية في العملية الانتخابية، ودور المجتمع المدني السـوري في الانتخابات، لا ســيما فــي المرحلة الانتقالية.
تحديات قائمة.. وأخرى قادمة
خلال الجلسات التي جمعت الخبراء والسياسيين والباحثين ضمن لقاء الإصلاح الانتخابي، طرحت إشكاليات وتحديات كثير للنقاش، منها ما يتعلق بجمود العملية السياسية وعملية التفاوض والعقبات في طريقها، ومنها ما يتعلق بالنواحي الديمغرافية مع تهجير ونزوح ملايين السوريين، إلى جانب تحديات مستقبلية تفرضها حقيقة أن التحول الديمقراطي الكامل لا يمكن أن يتم ويكتمل خلال فترة قصيرة.
على المستوى السياسي، تمت مناقشة سلة الانتخابات كإحدى السلال الأربعة في العملية التفاوضية، بحضور رئيس هيئة التفاوض السورية، بدر جاموس، الذي تحدث عن “لجنة الانتخابات” التابعة للهئية والتي تعمل على الإعداد لمشروع انتخابي يمكن أن تطرح في العملية التفاوضية.
ديما موسى، نائبة رئيس الإيتلاف السوري المعارض، أشارت خلال لقاء مع اليوم التالي على هامش الاجتماع، إلى جمود العملية السياسية حالياً وأثره على فتح أفق لدى السوريين والسوريات حول لحظة الانتقال السياسي، وتابعت “لكن التحضير لنقطة الانطلاق مهم جداً، في وقت ما ستبدأ العملية السياسية ويجب أن تكون أوراقنا جاهزة.. لذا علينا نحن العاملون في المعارضة، حين نحاول الإعداد لمفاوضات توصل لتسوية سياسية، أن نأخذ بعين الاعتبار موضوع الإصلاح الانتخابي”.
المعارض جمال سليمان، أشار أيضاً إلى مجموعة تحديات أمام الانتخابات في سوريا منها ما يتعلق بـ “المال السياسي بعد أعوام من الفساد وتجارة السلاح والمخدرات والأتاوات والنهب والمعابر”، وأضاف “التحدي الآخر هو سلطات الأمر الواقع القائمة في كل المناطق حتى الخارجة عن سيطرة النظام، وأيضاً سيطرة فكر ما دون الدول، فحالة التبعية لسلطات الأمر الواقع تعيق التعبير عن الإرادة الحرة للناخب السوري، وبالتالي تصبح العملية الانتخابية عملية صورية، ونعود لما كنا عليه”.
في مرحلة لاحقة، لا يرى المستشار القانوني خالد الحلو، أنه من السهل نجاح الانتخابات من المرة الأولى، مستشهداً بما حدث في بعض الدول العربية عقب ثورات “الربيع العربي”، “لا يكفي إسناد السلطة عن طريق الانتخاب مرة واحدة، حتى يمكن اعتبار أن النزاع قد انتهى وبدأت مرحلة الاستقرار، ذلك قد يسهم في بقاء الأنظمة السابقة، سواء كنا نتحدث عن أنظمة عسكرية أو دول عميقة في دول استبدادية مهيئة للانقضاض على السلطة مرة ثانية”.
التوصيات.. متى يمكن تطبيق هذا الإصلاح
توصل تقرير “الإصلاح الانتخابي وعملية الانتقال الديمقراطي” إلى مجموعة كبيرة من التوصيات على مستويات قانونية وتقنية عملية سواء من حيث إصلاح التشريعات أو تحديد النظام الانتخابية الأمثل لسوريا، وعلى مستويات إدارة الانتخابات وطبيعتها وشكلها وضماناتها وتعزيز المشاركة فيها. (التوصيات بالكامل في الصفحة 213 من التقرير).
وخلال اللقاء ناقش الحاضرون تحديات الإصلاح الانتخابي وعملية الانتخابات وأضافوا توصيات أخرى وأشاروا إلى ضرورة التوسع في دراسة الإصلاح الانتخابي وتشجيع الباحثين لمناقشتها أكثر، من جوانب إضافية، كالجانب السياسي والمجتمعي.
يشير معتصم السيوفي، المدير التنفيذي لليوم التالي، إلى أن “التقرير يسعى لتوضيح أن عملية الانتخابات في ظل الواقع الاستبداي وظروف الحرب، ليست عملية بسيطة يمكن اختصارها بتعجيل قانون الانتخابات ودعوة الناس بعدها للانتخاب، لأن ذلك قد يسفر عنه نتائج تعزز الانقسامات والمشاكل في سوريا نتائح لا تعكس إرادة الناس، لكننا نسعى لتحديد البيئة الآمنة والمحايدة الضرورية لإجراء انتخابات تعكس إرادة السوريين وتكون جزء من تسوية سورية، ما يجعل السوريين يؤمنون بمصداقية الانتخابات، لتكون خطوة على طريق إنهاء النزاع، ورد المظالم لأهلها، وإعادة الحياة إلى سوريا، بعد سنوات من الدمار والحرب”.
وحول نقاش عملية الإصلاح الانتخابي قبل انطلاق الحل السياسي، أوضح السيوفي “الجهد مطلوب من الآن ليبدأ العاملين المنخرطين وذوي الصلة بالعملية السياسية بالتفكير ومناقشة الانتخابات.. الآن يفترض التفكير في هذه المسائل، ويفترض الخبراء السياسيين والمدنيين والحقوقيين أن يمتلكوا المعرفة ويمتلكوا أدواتهم للمشاركة الفعالة في العملية الانتخابية”.
من وجهة نظر السيوفي، فإن البداية بطرح قضية الإصلاح الانتخابي مهمة، ولو على مستويات محلية ونقابية وضمن الاتحادات لإدخال هذه النقاشات، لكن التوصيات يجب أن تترافق مع العملية السياسية في أثناء مرحلة التفاوص وتصميم الاتفاق السياسي، كونها تنص على جملة من الإصلاحات ليكون لدينا بيئة مواتية لإجراء انتخابات في المستقبل.